ift

د مريم بدير تكتب: عندما يفقد الطب سلاحه الأخير عام 2040

معهد صحة الحيوان – مركز البحوث الزراعية- مصر

تقرير تخيّلي من المستقبل القريب يروي ما يمكن أن يحدث إن لم نتحرك اليوم….

القاهرة صيف ٢٠٤٠.
داخل غرفة الطوارئ، جلس فريق من الأطباء حول مريض شاب أُصيب بجرح صغير في قدمه أثناء مباراة كرة قدم. بعد أسبوع واحد فقط، تحوّل الجرح إلى عدوى قاتلة..

تم استخدام عشرة مضادات حيوية مختلفة… بلا نتيجة فالبكتيريا لم تستجب لأيٍّ منها.
البكتيريا لم تعد تخاف من شيء….

الطبيب المناوب يتمتم: “لقد فقدنا آخر دواء فعّال لدينا”

كان هذا المشهد قبل عقدين مستحيلاً.
اليوم، صار مألوفًا في كل مستشفى تقريبًا.

هكذا أصبح المشهد اليوم في معظم مستشفيات العالم.
ما كان يومًا “عدوى بسيطة” صار معركة خاسرة.
العمليات الجراحية تُؤجَّل خوفًا من المضاعفات فأصبحت مغامرة محفوفة بالخطر، والولادات القيصرية نادرة، والعلاجات الكيماوية توقفت لأن جهاز المناعة لم يعد قادرًا على مواجهة بكتيريا خارقة لا تستجيب لأي دواء معروف.

العالم يعيش في عصر ما بعد المضادات الحيوية.

الوباء الصامت الذي تجاهلناه

على مدى عقود، كانت مقاومة المضادات الحيوية تتزايد ببطء وبصمت.
التحذيرات كانت واضحة منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، لكن العالم لم يُصغِ.
المضادات كانت تُصرف بلا وصفة، تُستخدم بلا وعي، وتُهدر بلا تفكير.
حيث كانت المضادات توزَّع في الصيدليات بلا وصفة، وتُستخدم في مزارع الحيوانات بلا حساب، وتُصرف للإنفلونزا الفيروسية التي لا تحتاجها أصلاً.
في كل مرة ينجو فيها مريض بفضل مضاد، كانت بكتيريا أخرى تتعلم كيف تتغلب عليه.
وهكذا، بدأنا نُسلم سلاحنا الوحيد بأيدينا.

فكانت البكتيريا تتعلّم، وتتكيّف، وتنتصر.

من أين بدأت الأزمة؟

المقاومة لم تكن مفاجأة، بل نتيجة تراكمات لسنوات من الممارسات الخاطئة:

  • في الطب البشري: الإفراط في وصف المضادات الحيوية لأبسط الأمراض، وعدم التزام المرضى بإكمال الجرعات.
  • في الطب البيطري: استخدامها كمحفّزات للنمو في الأعلاف، وغياب التشخيص قبل العلاج.
  • في البيئة: تسرب بقايا الأدوية في المياه والتربة، مما سمح للبكتيريا بتطوير جينات مقاومة تنتقل من حيوان إلى إنسان.

وهكذا اكتملت الحلقة: الإنسان – الحيوان – البيئة، لتصبح المقاومة نتيجة طبيعية لسلوك جماعي غير مسؤول وتتحول إلى معركة خفية داخل كل خلية بكتيرية على الكوكب.

سباق العلم مع الزمن

عام 2040، لم تتوقف الأبحاث، لكنها أصبحت سباقًا مع الوقت.
في المختبرات حول العالم، يحاول العلماء استعادة زمام الأمور.
عاد الاهتمام بالعلاج بـالبكتريوفاج “وهو فيروسات دقيقة تهاجم البكتيريا وتقتلها دون أن تضر الإنسان”.
وتتسابق شركات التكنولوجيا الحيوية لتطوير مضادات نانوية قادرة على اختراق الجدار البكتيري، أو علاجات مناعية تحفّز الجسم للدفاع الذاتي.

لكن رغم التقدّم، يظل الطريق طويلاً، والوقت يداهمنا.
فقدان المضادات لم يكن مجرد أزمة دواء، بل انهيار لنظام صحي واقتصادي بُني على فكرة أن لكل مرض علاجًا سريعًا… انهيار منظومة علمية واقتصادية اعتمدت لعقود على سهولة العلاج.

هل كان يمكن تجنّب هذا المستقبل؟

نعم، لو استُخدم العلم في وقته.
لو استخدمنا المضادات الحيوية بحكمة، ولو التزم الأطباء بالتشخيص الدقيق قبل وصف العلاج.
لو دعمنا البحث في الاختبارات السريعة لتحديد نوع البكتيريا، وفرضنا رقابة حقيقية على استخدام الأدوية في الزراعة والإنتاج الحيواني.
ولو أدركنا أن حماية فعالية الدواء ليست مسؤولية الطبيب فقط، بل مسؤولية المجتمع بأكمله.

لو وُضعت لوائح صارمة لاستخدام المضادات في الثروة الحيوانية، واستُبدلت بممارسات وقائية وتحصينات فعّالة.

ما الذي يمكننا فعله اليوم؟

كل فرد يمكنه أن يكون جزءًا من الحل:

  • للمواطنين: لا تستخدم المضادات دون وصفة، وأكمِل الجرعة حتى نهايتها.
  • للأطباء: لا تكتب وصفة إلا بعد تشخيص، وكن قدوة في التوعية.
  • للمزارعين: تجنّب خلط المضادات بالعلف، واستشر الطبيب البيطري عند الحاجة فقط.
  • للباحثين: استمروا في الابتكار، فالعلم هو الأمل الأخير والسلاح الحقيقي في هذه الحرب الصامتة.
  • للحكومات: دعّموا المختبرات المرجعية وبرامج الرقابة، واعتبروا مقاومة المضادات قضية أمن قومي.

الطب البيطري والدور المصري في مواجهة مقاومة المضادات:

وفي مصر، أدركت الدولة مبكرًا أن مواجهة مقاومة المضادات الحيوية لا يمكن أن تتم بمعزل عن الطب البيطري، لأنه يمثل خط الدفاع الأول ضد كثير من الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان.
انطلاقًا من هذا الفهم، بدأت مصر تنفيذ الخطة الوطنية لمكافحة مقاومة مضادات الميكروبات بالتعاون بين وزارات الصحة والزراعة والبيئة والتعليم العالي، ضمن إطار مفهوم “صحة واحدة – One Health” الذي يربط الإنسان بالحيوان والبيئة في منظومة متكاملة.
أنشأت الدولة لجانًا وطنية لمتابعة الاستخدام الرشيد للأدوية، وأطلقت حملات توعية للمجتمع الطبي والبيطري والمواطنين، إلى جانب دعم برامج المراقبة القومية لرصد أنماط المقاومة في الإنسان والحيوان، وتطوير نظم للإنذار المبكر والتشخيص السريع.

وفي قلب هذه الجهود يقف معهد بحوث الصحة الحيوانية كأحد أبرز المؤسسات البحثية الداعمة للخطة الوطنية.
يعمل المعهد علي تقديم الدعم الفني للهيئات الحكومية والخاصة فيما يخص أنماط المقاومة البكتيرية في العينات الحيوانية والغذائية ، وتطوير اختبارات تشخيصية سريعة تساعد الأطباء البيطريين في تحديد نوع الميكروب واختيار العلاج الأنسب، مما يقلل الاستخدام العشوائي للمضادات.
ولأن بناء القدرات لا يقل أهمية عن البحث العلمي، تحرص الأستاذة الدكتورة سماح عيد، مدير معهد بحوث الصحة الحيوانية، على دعم الباحثين والعاملين من خلال برامج تدريبية مستمرة بالتعاون مع المنظمات الدولية.

وقد نظّم المعهد مؤخرًا دورة تدريبية بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) بعنوان “مراجعة وتوحيد طرق اختبار مقاومة الميكروبات ووضع البروتوكولات الإرشادية”،

في خطوة تهدف إلى توحيد معايير الفحص والاختبار على المستوى الوطني بما يتماشى مع أحدث التوصيات العالمية.

هذه الجهود تعكس رؤية مصر في جعل الطب البيطري والبحث العلمي شريكين أساسيين في حماية صحة الإنسان، لأن مقاومة المضادات لم تعد أزمة دواء فقط، بل معركة مشتركة من أجل مستقبل الحياة.

مستقبل مقاومة المضادات الحيوية لم يُكتب بعد، لكنه يتوقف على ما نفعله اليوم.”

ربما يكون عام 2040 مجرد سيناريو تحذيري تخيلي، لكنه قائم على حقائق علمية تتزايد كل يوم.
فإذا لم نتحرك الآن كأطباء، وباحثين، ومزارعين، ومواطنين فسيأتي اليوم الذي يصبح فيه الجرح الصغير تهديدًا للحياة…

ووقتها، سيصبح المضاد الحيوي الذي نستهين به اليوم… ذكرى من الماضي.

Comments are closed.