ift

د خالد العامري يكتب: عالم الميكروبات بين الضرورة والألم والمرض

استاذ الميكروبيولوجي و المناعة و البيولوجيا الجزيئية بكلية الطب البيطري جامعة القاهرة 

الميكروبات او الكائنات الحية الدقيقة أو الأحياء الدقيقة هي مجموعة واسعة من الأحياء التي لا ترى بالعين المجردة إلا أن هناك شواذ لهذه القاعدة فالبعض منها يمكن رؤيته بالعين المجردة.

اما العلم الذي يختص بدراسة الكائنات الحية الدقيقة فيسمى بعلم الأحياء الدقيقة او ما هو معروف باللغة الإنجليزية بالمايكروبيولوجي.

تشمل الكائنات الدقيقة البكتيريا والفطريات والطحالب والأوليات والفيروسات ويحتار بعض العلماء في تصنيف الفيروسات هل هي كائن حي أم كائن غير حي؟ وهي تعد مسألة علمية دقيقة تحتاج إلى البحث حيث يأتي الإختلاف بين العلماء من منطلق التعريف الدقيق لمعنى “كائن حى”.
وتعيش معظم الميكروبات كأحياء دقيقة منفردة في كل مكان على سطح الأرض حيث يوجد الماء بصورة سائلة. وهذا يشمل أيضا الفوهات المائية الساخنة الموجودة في البحار والمحيطات وداخل الصخور التي تكون القشرة الأرضية.
الكائنات الدقيقة حيوية بالنسبة للسلسلة الغذائية في المحيط الحيوي حيث أنها تعمل كمحللات للغذاء. ويحتوي جسم الإنسان على تقريبا نحو 2 كيلوجرام من الكائنات الحية الدقيقة المفيدة التي تساعد الجسم على هضم الطعام والاستفادة منه .
ويعتبر ما يوجد على جسم الإنسان وفي جسمه من الميكروبات ما يزيد عن 10 أضعاف عدد خلايا جسمه من الميكروبات والتي تقدر بحوالي مليون مليار ميكروب و كذلك داخلة وجميع الناس لديهم عدد كبير جدا من البكتريا في الأمعاء وفي الفم والأنف وعلى الجلد غيره .

ففي الأمعاء مثلا يتكون نبت جرثومي معوي يعرف بإسم الميكروبايوم المعوي ينتج عنها فيتامينات مثل بيوتين وفيتامين K وحمض الفوليك وتعمل دائما على تحسين مناعة الجسم وتمنع انتشار جراثيم ضارة وفطريات كثيرة .

كما يوجد في البراز نحو 100 مليار من الميكروبات. و نجد ايضا ان الإستخدام المفرط للمضادات الحيوية يؤدي الي تدمير عدد كبير من المستعمرات البكترية النافعة داخل الجسم مما يؤدي الي ضرر بالغ بالوظائف الحيوية للجسم .
وقد تنبه العلماء مؤخرا الي الاهتمام بدراسة مجموع هذه الميكروبات و التي تعيش داخل الجسم سواء في الإنسان او الحيوان بل و وصل الأمر الي اعتبارها عضو من أعضاء الجسم و وضعها تحت مسمى الميكروبايوم Microbiome وهو عالم مثير للغاية يحتاج الي مزيد من البحوث في ظل هذا العالم المعقد للميكروبات و كذلك هذا العزف السيمفوني الرائع للأجهزة المناعية المعقدة والمركبة في الإنسان والحيوان حيث نحتاج الي كثير من الدراسات على الميكروبات النافعة والضارة التي تعيش داخل وعلى جسم الانسان والتي تتحكم في أمور حيوية كثيرة تخص هذا الكائن ابسطها انها تتحكم في تكوين شكل جسمه نتيجة تحكمها في عملية الهضم و ليس هذا فقط فقد وجد ان الطفل الذي يولد من خلال العمليات القيصرية يعاني كثيرا لانه اثناء خروجه لا يأخذ قسط هائل و هام من الميكروبات الموجودة داخل المسار الطبيعي للولادة والتي في حالة مرورة بها كانت ستنتقل هذة الميكروبات من الأم للطفل وبالتالي تدعم جهاز المناعي و تسهل من العمليات الحيوية داخل جسمة طوال حياتة وهو نفسه ما يحدث في الحيوان حيث ان المسار الطبيعي للولادة يحتوي على ميكروبات كثيرة لدى الأم في غاية الأهمية للمولود يحرمه منها طبيعة الولادة القيصرية .

وبمجرد ولادة الطفل تبدأ عملية استعماره من خلال الميكروبات وينشأ له مستعمرات بكتيرية خاصة به ومع تغير أكله ومشربه والبيئة المحيطة به يتكون لديه على مدار الوقت ما يسمى بهذا الميكروبايوم Microbiome.

ولذلك كثير من الأبناء تجدهم يختلفون عن اجدادهم حيث الآن الطعام والشراب المسمى بالوجبات السريعة قد اثرت بشكل غير عادي على شكل اجسادهم ورد فعل أجهزتهم المناعية نتيجة اختلاف بشكل او بأخر انواع هذه المستعمرات داخل اجسادهم عن أجدادهم .

كما يغطي بعضها جلد الإنسان ويقاوم كائنات اخرى ضارة للإنسان ويمنعها من النفوذ إلى داخل الجسم.

كما أن البعض منها له القدرة على تثبيت النيتروجين فهي مهمة بالنسبة لدورة النيتروجين. ومن وجهة أخرى فبعض أنواعها يسبب المرض حيث يهاجم الكائنات الحية الأخرى وقد يصيب الإنسان ويؤدي لوفاة الملايين من الناس كل عام
إلا أن الكثير من أنواع الميكروبات مفيد. فبعضها يشترك في دعم دورة النتروجين فيما يسمى تثبيت النتروجين وفي تنقية المياه كما تستخدم أنواع منه في الصناعات الغذائية لإنتاج موادا غذائية مثل صناعة معظم منتجات الألبان كالجبن والزبادي على سبيل المثال لا الحصر وصناعة الخل و خلافه.
كما تستغل ايضا تقنية الميكروبات في إنتاج المضادات الحيوية وفي أنتاج مواد تستغل في الصناعة.

كما تجرى حاليا في أسبانيا بحوث لاستخدام البكتيريا في صناعة بناء المنازل عوضا عن استخدام الأسمنت الذي يحتاج تحضيره إلى طاقة حرارية كبيرة. و كذلك أيضا هناك انواع كثيرة من الميكروبات تستخدم في توليد الكهرباء .
و عندما نقترب من عالم الميكروبات نجد أن أنواع البكتيريا تفوق جميع انواع الأحياء الأخرى وتمثل نحو 70% من الكتلة الحيوية الموجودة على الأرض. و تقدر نسبة الميكروبات المعروفة والمصنفة علميا بنحو حوالي 5% فقط من بين ما يقدر بنحو 2 ل3 مليار نوع تعيش بيننا و معظم هذه الميكروبات لا يسبب المرض.تقوم الميكروبات بعمليات كيميائية حيوية ضرورة للحياة على الأرض وتؤثر على المناخ. وتعمل البكتيريا على تكوين النسب المناسبة من الأكسجين والنيتروجين التي تجعل الأرض مناسبة لحياة الكائنات الأخرى.

وتنتج الميكروبات نحو نصف الأكسجين الحر (O2) الذي تحتاجه النباتات.
هذا وقد مرت عصور جيولوجية على الأرض كانت نسبة الأكسجين في الجو فيها نحو نصف ما هو موجود الآن وانتجت البكتيريا الأكسجين تدريجيا عبر العصور فزادت نسبته التي حافظت بشكل مباشر وغير مباشر على الأحياء الأخرى على الأرض.

كما نجد ايضا أن البكتيريا تنمو في أجواء غريبة وبيئات غريبة جدا ومنها ما ينمو في درجة حرارة عالية جدا أو برودة شديدة أو في الإشعاع أو تحت ضغوط عالية كما يمكنها العيش في الظلام بغير أشعة الشمس.

ومن البكتيريا ما يتحمل البيئات المالحة والحمضية والقلوية. ويعيشون في تلك البيئات التي لا يستطيع أي كان حي آخر العيش فيها ويستمدون غذاءهم من مواد غير عضوية.
تظهر ايضا إمكانيات فائقة للميكروبات في بيئات غريبة تستطيع العيش فيها.

فتكون مصدرا لجينات جديدة وميكروبات أخرى يمكن أن يكون لها أهمية في تقنية البيئة و إنتاج الطاقة و التحلل الحيوي و معالجة النفايات و المواد الضارة وغيرها و كذلك في انتاج الوقود الحيوي كما ان منها ما يساعد على علاج التلوث البيئي الناجم نتيجة تسرب من البواخر للمواد البترولية فتحللها البكتيريا وتنقي الماء منها و قد استخدمت هذه التقنيات لازالة التلوث الذي أصاب مياة الخليج العربي بعد حرب الخليج و غيرها من الكوارث التي ادت الي تلوث مياة البحار و المحيطات بالمواد البترولية و التي اسندت فيها المهمة بنجاح للبكتريا و ادت دورها الفعال على اكمل وجه .
و مع دراسة علم الميكروبات على مدار سنوات و سنوات وجد أن عدد قليل من الميكروبات تسبب مرض الإنسان والحيوان والنبات بالمقارنة لأعدادها و مدى نفعها و الضرر التي قد تسببه تلك الميكروبات من امراض و التي تصل احيانا الي الوفاة في الأنسان و نفوق الحيوان و تلف المحاصيل و النباتات الا أننا علينا أن ندرك أهمية الميكروبات في عالمنا و انه رغم وجود عدد قليل من الميكروبات الضارة التي قد تضر بصحة الإنسان و الحيوان و البيئة إلا اننا لا نستطيع العيش في هذا العالم بدون وجود هذه الميكروبات و أن وجود هذا الكم الهائل من الميكروبات النافعة هى من نعم الله علينا و ان علينا أن يتغير مفهوم التعامل مع هذه الميكروبات سواء النافعة او الضارة .
فالميكروبات النافعة هى العامل الرئيسي لبناء اقتصاد دول بأكملها من خلال استخدامها في عمليات التكنولوجيا الحيوية سواء البيضاء او الخضراء او الحمراء او الزرقاء وكذلك ترسيخ مفهوم الصحة الموحدة -صحة الانسان وصحة الحيوان و صحة البيئة – لدى مسئولي الصحة في بلداننا العربية حيث أن هناك عدم إهتمام بهذا الملف و دائما ما تجد ملف الصحة يتناسى خطورة ملفاته لدى الطب البيطري و الزراعة في خروج واضح عن المسار السليم و الذي يجب أن يقوم عليه و هو توحيد وتضافر الجهود في عزف سيمفوني متكامل لدعم ملف الصحة لذلك يجب إعادة توطين هذه الملف بوزارة الصحة بمفهوم و مضمون يضمن السيطرة الكاملة على الميكروبات الضارة و التي تنتقل و تتجول كيفما تشاء بين الإنسان و الحيوان و البيئة و تغيير هذه المفاهيم لدى مسئولي وزارة الصحة وكذلك لدى السياسين الذين لا يعلمون معظمهم طبيعة علوم هذه الميكروبات كما انها ايضا ستؤدي الي تغيير فكر مسئولي التعليم العالي و البحوث لتوفير احتياجات العلماء و اساتذة الميكروبات من نوع خاص من المعامل لا تتوفر في الجامعات لتسهيل مهمة الباحثين في العمل على هذه الميكروبات الخطرة مع توفير هذه النوعية من معامل الأمان الحيوي و هو امر اصبح ضروريا وليس رفاهية في ظل دمار واضح على مستوى العالم للإقتصاد العالمي و الذي يحصد كل الإنجازات التي حدثت على مدار عقود حيث جشع الإنسان أصبح جليا و واضحا و الذي يتضح على تقديم مصلحة الإقتصاد على حساب اعداد كبيرة من البشر قد يلقوا حتفهم .
أتوقع أيضا أن هذة الجائحة التي زلزلت عالمنا ستغير من مفهوم التعامل مع الطب البيطري في دولنا العربية لتدبر الأمر كما إنني اتوقع بزوغ نجم علم الطب الشرعي الخاص بمجال الميكروبات و الذي أتت له الفرصة سانحة للتعبير عنه حيث ستتجه له الدول لتفعيل دوره في تقصي الحقائق في عالم ملئ بالصراعات و الحروب و لا أستثني منها الحروب البيولوجية و الأسلحة البيولوجية و التي تضرب بعنف عالم الإنسان و الحيوان و النبات و البيئة .

Comments are closed.